د. محمود الرجبي
فنون الصحافة الاستقصائية
تشكل الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة رافعة مهمة فِي الـمُجْتَمَعات المتحضرة للمساهمة فِي الكشف عَن الفساد، وترسيخ الديمقراطية، وَالوُصُوْل إلى الـمَعْلُومَات الـمَخْفِيَّةِ الَّتِي يَعْمَل الصحفي الاسْتِقْصائي عَلَى كشفها، وإظهارها للرأي العام، ولا يعد هَذَا النَّوْع من الصَّحَافَة ترفًا، بَلْ عَلَى العكس من ذلِكَ، تحتاج الـمُجْتَمَعات مهما بلغت من التطور العلمي، والتقني، والاجتماعي مثل هَذِهِ الصَّحَافَة لتكشف ما لا يُمْكِنُ كشفهُ بالطرق التَقْلِيدِيَّة من انحراف وفساد، وَلَوْ نظرنا إلى تاريخ الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة، لوجدنا قضايا زلزلزت الدُّوَل والعالم، وَالَّتِي كُشفَت من خِلال هَذِهِ الصَّحَافَة. ومِن الأمثلة عَلَيْهَا فضيحة ووترجيت (The Watergate scandal) الَّتِي أدَّت إلَى استقالة الرئيس الأمريكي الأسبق نيسكون وعدد مِن معاونيه مِن سدة الحكم عام 1974.
تعتمد الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة عَلَى التقصي، والتحقق وَالبَحْث العميق، وتختلف عَن التَحْقيقات الصحفية الأخرى فِي أنها تسعى إلى كشف أسرار قام أفراد أوْ جهات نَافِذَة بإخفائها، لأنَّ فِيهِا خُطُوُرَة كَبِيرَة عَلَيْهِم، فِي قضايا تهم الـمُجْتَمَع، وتمس أفراده وَتُؤثر عَلَيْهِم.
الصحفيون الاسْتِقْصائيون أوْ المنقبون عَن الفساد (Muck Rekers)، كَمَا أطلق عَلَيْهِم، يتميزون بصفات عديدة تجعلهم أكثر قُدْرَة عَلَى الوُصُوْل إلى ما لا يَسْتَطِيع الآخَرونَ الوُصُوْل إلَيْهِ، والربط بَيْنَ الـمَعْلُومَات لِلوُصُولِ إلى الحقائق، كَمَا أن صفة الشجاعة، والمثابرة، والنَّفَسَ الطويل، وَالقُدْرَة عَلَى التحليل، والتقمص، وغيرها من الصفات مهمة لأيّ صحفي اسْتِقْصائي.
للصحافة الاسْتِقصائيَّة فوائد عديدة عَلَى الـمُجْتَمَعات، فحسب (مَحْمود، 2021، 329): قَدْ تُؤَدِّي إلى "تحرك وزاري، صدور قرار، تَعْدِيل أو تغيير تشريع قائم، صدور تشريع جَدِيد، محاسبة المسؤولين والمفسدين، تحرك مجلس النواب للمساءلة، إقالة المقصرين، وأخْرَى"، علمًا أن بَعْض التَحْقيقات الاسْتِقصائيَّة حركت الرأي العام، وأدَّت إلى صدور قرارات حاسمة فِي عدة دول، أوْ حَتْى تغيير تشريعات، وحسب (منصور، 2019) فإن التَحْقيقات الاسْتِقصائيَّة تَقُوم بوظيفة المراقبة الَّتِي تعد من وظائف الإعلام، وتجسد دور السلطة الرَّابِعَة للوسائل الإعلامية فِي الـمُجْتَمَعات، علمًا أن الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة تَقُوم عَلَى التقاط الجرائم، وقضايا الفساد، وتحارب كل أشكالها (حمود، 2010)، وَبِذَلِكَ تَكُون الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة كَمَا أشار إليْهَا (عبد الرحمن 2022، 1071): "هِيَ فِي الأساس مهنة فتح الأبواب والأفواه المغلقة، لِذَا تتسم بالمشقة، وعدم الاستقرار، وَتحْتاجُ إلى صبر وصلابة من نوع خاص، فالصحفيون الاسْتِقْصائيون "Investigative Journalists" يقضون مُعْظَم لياليهم فِي عمل مرهق فِي البَحْث عَن الحقائق".
تشترك الصحافة الاسْتِقصائيَّة والبحث العلمي في العديد من أوجه التشابه في مناهجها ومنهجياتها، وتتضمن كل من الصحافة الاسْتِقصائيَّة والبحث العلمي تَحْقيقا منهجيًا قائمًا على الأدلة لكشف الحقيقة حول موضوع معين، وتتطلب كل من الصحافة الاسْتِقصائيَّة والبحث العلمي مستوى عميقًا من الفضول والمثابرة والاهتمام بالتفاصيل. كلاهما يتضمن إجراء المقابلات، وجمع البيانات، وَتَحليل المعلومات، وتقديم النتائج بطريقة واضحة وموجزة.
لا يُمْكِنُ لمجتمع قائم عَلى الديمقراطية إلا وتَكُونَ الصَّحَافَة الحرة جزءًا مِن مجتمعه المَدَنِي، فَهي أساسٌ مهم " فِي بِنَاء الـمُجْتَمَع الديمقراطي الَّذِي يَقُوُم عَلَى الشفافية، حَيْثُ يحقق مبدأ الرقابة والمساءلة، والمحاسَبَة، كَمَا تُؤَدِّي الصَّحَافَة دورًا مهمًا فِي تزويد الشعب بالحقائق وَالـمَعْلُومَات وتسلط الضوء عَلَى المؤسسات بهدف تبصير الرأي العام بممارساتها، وإعلام اليَوْم هُوَ إعلام الـمَعْلُومَات وتطبيقاتها.
وتبرز أهمية الصَّحَافَة الرقمية الجَديدَة فِي البَحْث والتحري والاستقصاء، وَهِيَ وظائف تنسب إلى الإعلام بِشَكْل عام، وتعد من الـمَهمَّاتِ الأساسية للصحافة الاسْتِقصائيَّة (InvestigativeJournalism) مُنْذُ ظهورها، وَالَّتِي تَعْني تجاوز الخَبَر وَالـمَعْلومَة المجردة إلى بحث واستقصاء الأسباب والدوافع الكامنة وَرَاء حدث أوْ مُشْكِلَة أوْ ظاهرة تؤرق الرأي العام، وَبِنَاء سياق مُتَكامِل لَهُ استجابة لدور الصَّحَافَة فِي التفسير الَّذِي يَتَطَلَب العَدِيد من الـمَعْلُومَات" (عبد الجليل، 2022، 67).
يَأتِي هَذَا الكِتَاب ليرفد الـمَكَتَبَة العَرَبية بمرجع يُمكن الطَلَبَة الدارسين من دراسة الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة، ويتميز بأنه يَجْمَع ما بَيْنَ العَمَل الأكاديمي، والعملي، حَيْثُ يتوفر فِيهِ دليل كَامِل عَمَلي لِلكتابةِ ابْتِدَاء من الوُصُوْل إلى فِكْرَة تَحْقيق اسْتِقْصائي، وَمرورًا بمراحل التقصي لِلوُصُولِ إلى الحقائق، وَانْتِهَاء بِكِتابَة التَحْقيق الاسْتِقْصائي، وكيفية صياغة مقدمته، وكلماته، واستخدام جمل وَكَلِمَات الوصل، وآليات وتقنيات مُتَعَدِدَة تصب فِي النِّهايَة فِي مَصْلَحَة إنتاج تَحْقيق اسْتِقْصائي فَعَّال.
يَهْدِفُ هَذَا الكِتَاب القائم عَلَى مَنْهَجِيَّة بحثية عِلْمِية إلى الكشف عَن دور الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة فِي الـمُجْتَمَع، ودراسة اخلاقياتها وكيفية ممارستها بِطَرِيقَة احترافية، ويعتمد الكِتَاب عَلَى مَنْهَجِيَّة فريدة فِي مجاله، إذْ أنه يعمد إلى إجراء تحليل ل (56) تَحْقيقًا اسْتِقْصائيًا متنوعًا، ليصل الباحث من خلاله إلى أفضل الممارسات المثلى لِلوُصُولِ إلى صحافة اسْتِقْصائية احترافية، وَرَغْم أنه يغطي الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة المكتوبة، والرقمية، وَلكِنَّهُ يتشابه فِي كثير من جوانبه مَع الصَّحَافَة الاسْتِقصائيَّة التلفزيونية، ويركز عَلَى عصبها، وأساسها فِي مُخْتَلِف جوانبها.
وَقَدْ قام المؤلف بإجراء عدة مقابلات معمقة بلغ عددها تسع مقابلات ثمانية مِنْهَا مَع ثمانية صحفيين استقصائيين، وَوَاحِدَة مَع خبير إعلامي وقانوني، وَتَمَّ أخذ اقتباسات من هَذِهِ اللقاءات للإجابة عَلَى عدد من أسئلة الكِتَاب.